الرمز، هذا الوقوف المتحرك الذي لا نستطيع تطويعه أو اخضاعه لمشيئتنا؛ متجدد لا تحتويه فكرة أو إشارة أو مغزى. يعيد صياغة شكله و دلالته عند كل محطة و عند كل سكون، كامل في كل شيء و مبهر في الوصف مع كثير من التعقيد. هذا الكنه المتعدد، عابر للحقائق و مطلق في تجليه، وحدها الفرضيات اللانهائية مقام يرتضيه.
و رغم المجازفة التي يستدعيها الخوض في عناصر هذا المسمى "رمزا"، إلا ان الإدراك بجسامة محاولة اقتناص هذا الموجود الهارب، كان كافيا للفنان التشكيلي المغربي عبد الفتاح بلالي ليبدأ المسير نحو طرق متفرقة في الوسيلة و مجتمعة عند غاية الإلمام به، زاده في ذلك ريشته و حواسه.
يبرز الرمز في اعمال بلالي كصيحة فنية تتحدى بهرجة العصر و شمولية العولمة، لبعث أساليب الأجداد في الإفصاح عن جوانب جمالية مقرونة بهم ضمن حركة التاريخ، ما يجعلنا، نقف بحرص و تمعن، عند كل تفصيل و كل ملمح من لوحته التجريدية التي لا تنطق سوى بلغة الإنسان الأول، نقطة البداية في مسلسل الإبداع البشري.
و في لوحات عبد الفتاح بلالي كثيرة هي الرموز، منها ما يؤرخ لحياة و منها ما يدون مرحلة بكل تفصيلاتها، و بعضها يمدنا بأثر حسي عن تجربة ما. و هي في عمومها انعكاس عذري لملامح وجودية ما زالت راسخة للآن، كامتداد لذوات بشرية مترابطة فيما بينها و توثيق لا بد منه لمسيرة الإنسان في كل العصور.
لذا، تنبع أعمال الفنان من عمق الدلالات القديمة التي تتخذ من الرمز معنى و بوابة لإدراك الجوانب الخفية في روح الإنسان، منفردة بخاصية فذة تشكل من الإشارات لغة متكاملة تكمن بين فواصلها المراحل و تُختزل في انحرافاتها التجارب الإنسانية، مثل بساط يخطو عليه الماضي و المستقبل ليمدا الحاضر بقصص و عواطف ماضية ليست سوى فصول من حكايتنا.
لوحات بلالي أسرار و إيماءات في الآن نفسه، محاولة لجرح المعنى و مدحه، كمذكر يملي على الأنثى مشاعرها، على حد تعبير الشاعر محمود درويش. و هو بذلك يكشف ولعه غير البريئ بالغموض و الإيحاء، و حاجته للعب الغميضة مع المتلقي ضمن متاهة لا تفضي إلى أجوبة حاسمة. لأن رمز بلالي ما هو إلى حجة على عدم اليقين في كل شيء، تأكيدا على رؤية الفيلسوفة و الكاتبة الأمريكية سوزان لانفر التي تعتبر أن "الرمز أداة ذهنية، أو مظهر من مظاهر فاعلية العقل البشري".
يركز عبد الفتاح بلالي في أعماله على الإشارات و الرموز كأدوات لبلورة نمط تشكيلي يتخذ من إنسان ما قبل التاريخ مثالا للتعبير الفني، و ليس هذا بنكران للمدارس التشكيلية الحديثة أو نفيا لها، و لكنه تأكيد منه على ضرورة الارتباط بأصولنا كاتصال مباشر و اعتراف صريح بقيمة الجيل الأول الذي كان بمثابة الخطوة الأولى في مسيرة الإنسان الفنان. لذلك تبرز في أعماله الرموز كتجسيد مادي لوقفات شعورية هي بمثابة خطوط البداية لكل المراحل، عبرها تنكشف الإشارات من بين الألوان لتوقظ في المتلقي مسارات متعددة لخطوات آدمية مختلفة في سبيل الإنسان؛ إنسان تجاوز ذاته إلى التيه الذي لن يتعداه إلا بالرجوع إلى روحه الأم.. إلى المستهل الذي يتصل من البداية إلى النهاية بالنقطة الأولى الفطرية التي تترابط مصائرنا فيها و تتناقح عبرها، لنكتشف جوهرنا الأبدي الملون بطينة آدم، أبونا الذي مثل الإنسانية و تمثلت فيه.
و من دون شك، فالمسار الفني الذي سلكه بلالي ليسمو به عبر المجال الأبيض للوحة، هو واحد من الأساليب التي اختزلت بطابعها الأزمنة و الأمكنة و لملمت من بدايات الطريق أيقونات جمالية يتلقفها المتلقي ليستشعر الرحلة الأولى التي ترمز ببساطة إلى تاريخ الإنسان. و بذلك حق علينا القول بأن بلالي تميز بأسلوب خاص يجعل منه واحدا من الرموز التشكيلية التي تحاول أن تستثمر الماضي لترشدنا إلى المستقبل، انطلاقا من قراءة التاريخ و الرؤى الأولى التي استنبطها من واقعه إنسان ما قبل التاريخ.
تعليقات
إرسال تعليق