ذكرى رحيلٍ تتجدَّد، وتذكر بمحمد الحبيب الفرقاني، العلم السياسي والأدبي والفقهي، الذي قاوم الاستعمار وسعى إلى بناء مغرب مختلف بعدَه، كما تُذكر بنموذج خاص في استيعاب تعدد المجتمع المغربي وتركيب امتداداته بعيدا عن الانغلاق القُطريّ، مع التشبث بمبادئ البدايات.
أربع عشر سنة ولّت منذ رحيل الفرقاني، المنفي في زمن الكفاح ضد الاستعمار وهو في صفوف الحركة الوطنية، والمعذب بعد الاستقلال وهو في صفوف قيادة المعارضة الجذرية، والمبعد بعد تمسّكٍ بالفكرة الأولى في زمن اختلفت فيه أولويات منتمينَ إلى اتحادٍ “للقوات الشعبية” بعد رحيل الملك الحسن الثاني.
وفي سنة 2001، على بعد يومين من المؤتمر السادس لـ”الاتحاد الاشتراكي”، أضرب الفرقاني عن الحضور، مع تمسكه بالاستمرار في صفوف حزبه، مفسرا ذلك في رسالة بأن “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سيتحول مباشرة بعد هذا المؤتمر الزائف إلى حزب تابع للحكومة والإدارة كما يراد له أن يكون، ويفقد خطه النضالي وقيمته الوطنية وأرضيته الشعبية وعلاقته الحميمية بمطامح الشعب وجماهيره، وبمهام التحرير وبناء الهوية الوطنية العربية – الإسلامية، ويتحول إلى حزب للنخب الإدارية والثقافية، ويطوى ويذوب في قضاء المصالح والمطامح الزاحفة، ويفقد أخيرا جلده ووجهه وملامحه الوطنية وخصائصه النضالية، ويعود هيكلا شاحبا يتسكع القوة والمدد من الإدارات والوزارات ومصالح الحكم”.
المؤرخ محمد لومة كان من بين من أصدروا كتبا تتذكّر جوانب متعددة في مسار الفرقاني، من بينها ما أعد بتعاون مع الراحل حول أحداث طبعت مغرب “سنوات الرصاص”.
وفي ذكرى رحيل محمد الحبيب الفرقاني، قال لومة في تصريح لموقع هسبريس إن الراحل “عينة خاصة جدا من قادة الحركة الاتحادية الأصيلة في المغرب”.
وعاد المؤرخ إلى بدايات الفرقاني، قائلا: “ينحدر من وسط ديني محافظ، تربى في مدشر أزرو نواحي تحناوت، بعيدا عن مراكش بحوالي ثلاثين كيلومترا، وكان أبوه قاضيا شرعيا على المنطقة، أيام الحماية، وبالتالي استطاع أن يحفظ كل المتون تحت حرص والده الشديد، ثم بعد ذلك التحق بجامعة ابن يوسف في 1939”.
هذه الفترة انغمر فيها الراحل في “النشاط الطُّلّابي في جامعة ابن يوسف، بموازاة مع النضال الطلابي بالقرويين، فقد كانتا القلعتين الكبيرتين للتعليم الأصلي خلال فترة الحماية”، وهكذا “ناله ما لحق رفاقه من عنت وتعذيب ومضايقات، لكنه استطاع مع ذلك الحصول على شهادة العالمية عام 1948 في الفرع الأدبي، في وقت لم يتمكن رفاق آخرون من ذلك، مثل الفقيه البصري وعبد السلام الجبلي والدكالي ومراد الفكيكي، وطبعا أول من استطاع الحصول عليها عبد الله إبراهيم في 1945، ثم الفرقاني، فـ بنسعيد آيت يدر”.
ولــ”كونه من نجباء جامعة ابن يوسف”، استلم الحبيب الفرقاني “مسؤولية التعليم الوطني الحر في المدرسة الحسنية في مراكش، لكن طاغوت الباشا الكلاوي والاستعمار ضغط عليه، فاشتكى لاحماد أولحاج أخنوش، والد رئيس الحكومة الحالي عزيز أخنوش، وقد كان من أعيان أكادير، فكان الانتقال إلى المدرسة الحسنية في أكادير، وهناك اشتغل لسنتين، لكن سرعان ما اعتقله الفرنسيون ونفوه إلى مدشره ضواحي تحناوت، وهناك استطاع إنشاء العديد من خلايا حزب الاستقلال”.
وفي 1952، مع الأحداث التي تلت اغتيال الزعيم التونسي فرحات حشاد؛ “كانت موجة من الاعتقالات في صفوف حزب الاستقلال بالمغرب كله، وكان الفرقاني من بين المعتقلين، ونفي إلى مناطق الصحراء، نواحي زاكورة، إلى سنة 1956”.
هنا، في سنة الاستقلال، “صار مفتشا في حزب الاستقلال بمراكش، وكانت المفتشية تضم آنذاك مراكش وبني ملال وورزازات والصويرة والجديدة وآسفي، أي إنها كانت كبيرة جدا، وهناك نبغ في العديد من المجالات، ففضلا عن الجانب السياسي هناك الجانب الأدبي، فاستطاع إنشاء مجلة أدبية لأول مرة في منطقته (رسالة الأديب) سنة 1958، وصدرت منها 7 أعداد، وكان مجهودا شجاعا، واستقطب أقلاما من جملتها عبد الله إبراهيم، والقاضي عبد الله كنون، ومصطفى المهداوي، وعبد القادر حسن، وغيرهم من الوطنيين الكبار”.
وبعد اتهام لم يثبت لغياب الأدلة بالمشاركة في اغتيالٍ، سيساهم الراحل “في إنشاء الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959، ليبدأ مسلسل آخر من المضايقة البوليسية المستمرة له؛ فقد كان امتدادا للتيار الجذري داخل الحركة الوطنية المغربية، التي انحدرت من المساجد والزوايا، واستطاع أن يطور قدراته الفكرية، فاستطاع قراءة أبرز الكُتّاب العالميين، وطور قدراته التنظيمية فصارت له أدبيات ودراسات في التنظيم السياسي لحزبه، وكان على الدوام يتموقع على يسار حركته السياسية”.
ولم تنته محن الفرقاني في العقد السادس من القرن العشرين، ولو أنه كان في منصبٍ للمسؤولية؛ فـ”في سنة 1963 اعتقل لمدة شهور، في إطار ما تسمى مؤامرة 16 يوليوز 1963، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع وقف التنفيذ، مع أنه كان برلمانيا”، و”بعد خروجه من السجن دخل في معمعان إنهاض الحزب في المغرب بأكمله من موقعه كعضو في اللجنة المركزية للاتحاد الوطني”.
وفي نهاية الستينيات، “بدأت محنة أخرى” لمّا اتّهم بـ”إعداد خلايا مسلحة لإسقاط النظام”، عقب وشاية. هنا، يحكي لومة: “وصل الحبيب الفرقاني إلى مرحلة شديدة من التعذيب، إلى درجة أنه أُرسِل والدم ينغل في أقدامه، وإلى درجة أنهم كانوا يطعمونه بأيديهم، وينقلونه على متن عربة صغيرة لنقل البضائع، وهي محنة استمرت 6 سنوات”.
في هذا الملف، الذي كان يسمى قضائيا “الفرقاني ومن معه”، أدين بـ”عشر سنوات سجنا نافذا”. ومن بين من “كانوا معه”: عبد الرحمان اليوسفي، الفقيه البصري، وعبد السلام الجبلي، وعبد الفتاح سباطة، وأزيد من 180 متابعا آخرين.
كانت هذه المحطة التاريخية موضوع كتاب لـ محمد لومة بعنوان “محاكمة مراكش الكبرى، ثورة شعبية أم مناورة للتحريك؟”، بتقديم الحبيب الفرقاني، والنقيب عبد الرحمان بنعمرو، الذي ترافع في هذه المحاكمة الشهيرة.
بعد هذه المحطة، يتابع المؤرخ لومة: “صار الفرقاني يمثل التيار التقدمي الثوري داخل الحزب في وجه تيار آخر كان يكافح ويحارب للوصول إلى مناصب الحكم بأي ثمن على حساب الشهداء والتضحيات”.
هذا الصراع “سيؤدي إلى اعتقال آخر عندما أصدر الحزب بلاغا يدين فيه موافقة الحسن الثاني في مؤتمر نيروبي على إجراء استفتاء في الصحراء المغربية، وحكم عليه بالسجن ثلاث سنوات مع إيقاف التنفيذ، وحكم بالسجن النافذ سنة كاملة على عبد الرحيم بوعبيد ومحمد منصور ومحمد اليازغي”.
وفي مرحلة الإعداد لحكومة “التناوب”، ذكر لومة أن “الصراع قد اشتد بين الحبيب الفرقاني ورفاقه، والتيار الآخر المُمَخزن الذي كان يشتغل للوصول إلى السلطة، ومن بينهم محمد الحليمي، وفتح الله ولعلو، وعبد الواحد الراضي..وجاءت عملية تفجير الصراع مع التيار اليميني الذي أفضى به إلى توجيه رسالة للانسحاب من المؤتمر الوطني السادس للاتحاد الاشتراكي”.
هذا المؤتمر، سجل لومة، أن الفرقاني رآه “إعدادا للمسرح الحزبي والتنظيم الحزبي لمباركة حكومة التناوب، لذا حذر من أن حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتضحياته وكفاحاته سيتحول إلى حزب تابع للحكومة وللإدارة (…) وانتقد تعزيز موقع الاتحاد في السلطة من الحكومة والمجالس الحكومية والبرلمانية والجهوية”؛ لأنه، وفق قراءة المؤرخ: “هذا الوضع أفرغ الاتحاد الاشتراكي من مضمونه كأداة للتوعية والتعبئة والتنظيم للتحاور مع أصحاب القرار، والابتعاد عن تلوث المنافع والامتيازات”.
وذكّر لومة بـ”آخر اجتماع حضره الفرقاني في المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي”، وقال: “حكى لي مرارا وقائعه بألم شديد، فبحضور أعضاء المكتب السياسي أخذ زمام المبادرة بطبيعة الحال الكاتب الأول عبد الرحمان اليوسفي، وبدأ به وقال: ‘أسّي الحبيب خْرْجْتِ على هذا الحزب’ (السيد الحْبيب أوديت بالحزب)، وتجري اتصالات ليس مسموحا لك بها، ويشير إلى علاقات…”، وزاد المصرح: “لأن الحبيب الفرقاني فقيه أساسا، ولكن ليس فقه الانبطاح والشعوذة بل الفقه المتنور، على غرار فقه شيخ الإسلام بلعربي العلوي، وأبي شعيب الدكالي، والمهدي بن تومرت، الفقه الثوري”.
وأردف المؤرخ قائلا: “ساءل اليوسفي اتصال الفرقاني بعبد السلام ياسين، وكتابته في مجلات للإسلام السياسي، وكان أعضاء المكتب السياسي مطأطئي الرؤوس ولا أحد منهم يتدخل، وكأنها إدانة شخصية للفرقاني، في وقت كان معظم أعضاء المكتب السياسي في سن أولاده، فأحس بالتحقير والدونية، فانفجر باكيا قائلا لليوسفي ‘أنت لي خرجتي على الحزب'”.
واسترسل لومة ساردا ما حكاه الفرقاني حول الاجتماع الأخير: “قال لليوسفي: ألم نتفق عندما كلفك الحسن الثاني بتشكيل الحكومة أن تبلغنا أولا بأول عن كل المراحل، ومن يستوزرون، وأن نعطيك أسماء من المناضلين الذين يستحقون أن يكونوا وزراء، دون أن يتلوثوا بالذهاب مع التيار الخطأ تيار الاسترزاق والمخزنة؟ وإذا بك تشتغل مع محيط الملك ووزير الداخلية إدريس البصري والمدير العام لـ”لادجيد” عبد الحق القادري، إلى أن شُكِّلَت الحكومة بأيادٍ غير أيادينا، وليست هذه “الفيرمة” (الضيعة) الخاصة بك سي عبد الرحمان، والمسارُ الذي دفعْتَ فيه الحزب مسار مغلق الآفاق، ومنافعه ظرفية ووقتية لبعض الأشخاص، وحركة التحرير الشعبية هي التي ستؤدي الثمن”.
عن هسبريس
تعليقات
إرسال تعليق