د. محمد آيت لعميم
في غالب الأحيان لا تخطئ العين التقاط أشخاص يشعون موهبة وذكاء من النظرة الأولى، يكفي في ذلك أن تسمع كلمة أو تعليقا أو ملاحظة. أشياء صغيرة تكفي للتوغل في أعماق الشخصية، الفنان الشاب المراكشي عبد الحق بوعيون من هذا الصنف، شاب له ذوق خاص للكلمة، حين يسمع شيئا ذا بال يتراقص طربا، وحين يطرق سمعه الكلام الفارغ لا يخفي امتعاضه واشمئزازه. لديه ملكة للتقويم، تقويم الكلام والرجال. توطدت علاقتي به منذ عقد من الزمن، كان قد سمع كلاما قلته في إحدى الندوات فذكرني به وكنت قد نسيت، فعلمت حينها أن الشاب فعلا طالب علم وفائدة، لا يضيع وقته إذا حضر مجلسا من مجالس العلم والمعرفة. هذه الخاصية كانت في أصل ما هو عليه الآن من دراية عميقة ورواية سلسة لفن الملحون حين أقول الرواية فإني أقصد أنني لم ألتق قط في حياتي شابا يستحضر هذا الكم الهائل من قصائد الملحون، ليست المشهورة فقط بل القصائد الناذرة التي تلقاها عن شيوخه الكبار، والتي عثر عليها بالتنقيب والتفتيش في الدفاتر ومستنسخات أصحاب هذا الفن، لكن ما جذبني إليه ليس فقط هذا الاستحضار الرهيب للنصوص وقراءتها قراءة سليمة تراعي خصوصية كتابة هذا الفن المغربي الأصيل؛ ولكن قدرته الهائلة على استحضار المعاني الباطنة والدلالات القوية التي تسري في قصائد الملحون، ناهيك عن استذكار أسباب الورود، والحكايات المصاحبة للقصائد التي تضيء معانيها ودلالاتها، زيادة على أن لديه نباهة خاصة في التقاط إشارات من نصوص ملحونية تفيد في توثيق معلومات عن الشاعر، يضمنها قصائده عن طريق حساب الجمل، أو معلومات تاريخية وسياسية، واجتماعية، مما يجعل حديثه عن هذا الفن يكتسي صبغة المعرفة العلمية، هذه المعرفة تعلي من شأن هذا الفن الذي درج أغلب الناس على استعماله فقط في الأداء و الغناء.
لعبد الحق بوعيون قدرة هائلة على تحبيب الملحون للمستمعين، وذلك أنه يتمتع بقوة الحضور، وملأ المكان واستجلاب الانتباه، فهو يقدم قصيدة الملحون مخفورة بمفاتيح تجعلك تلج عالم القصيدة وما حف بها من حكايات ونوادر. أضف إلى سرعة البديهة التي تسعفه في اكتشاف العلاقات الخفية داخل مدونة الملحون، وحين نقول الملحون فإننا نقصد به جل شعرائه في المغرب. فكيف تجمع هذا الكم الهائل من القصائد الملحونية وأسباب ورودها، والشفوف في تحقيقها والانتباه للأخطاء المتداولة في إلقاء هذه القصائد حين تنشد بعض قصائد الملحون مليئة بالأخطاء، حتى ترسخ الخطأ، وذلك ناتج عن طبيعة التلقي الأول من حيث الرواية، وما يعتريها من تصحيف وتحريف.
اكتسب هذه الخبرة في شعر الملحون ، بعدما لازم شيوخ الصنعة وأخذ عنهم مشافهة، وتدرج في ذلك من الولع بالاستماع للملحون الذي كان يبث في الراديو في الثمانينيات فكان يصيخ السمع للصويطة بوستة، والتولالي وبنسعيد وبنغانم والهروشي وكنون. وغيرهم ثم بعد ذلك بدأ يبحث عن الأشياخ في مدينة مراكش ليتتلمذ عليهم فكان يلازم مولاي الطيب لمراني رحمه الله الذي كان في سوق السمارين، ليأخذ منه القصائد النادرة في هذا الفن، ومن القصائد التي ظفر بها من عنده قصيدة الهيفا و قصيدة "حب حبيب الرحمان" و "وناستي هنية" للشيخ الجيلالي امتيرد بعد هذه المرحلة سيلتحق بالحاج محمد بن عمر وسيتلقى فن الصنعة في جمعية الجيلالي مثيرد، وبعدها سيصادف فرقة تضم الإخوة أمنزو. يعتبر بوعيون علاقته بعبد الله الشليح لحظة حاسمة في مشواره، بحيث في حضرة الشيخ سيدرك بعمق كل ما يتعلق بالملحون نشأة ومصطلحا، والمراحل التي قطعها الملحون والتدرب على قراءة المخفي في هذا الشعر واستنطاق ما بين سطوره وكلماته والفهم العميق والوقوف على عنصر المفاجأة فيه. يلهج كثيرا بوعيون بأستاذه الشليح الذي فسح له المجال ليظهر مواهبه وقدراته العالية على الحفظ والفهم، أثناء هذه المرحلة أصبح بوعيون قادرا على الغناء والكتابة والفهم، جمع بين الرواية والدراية والإبداع.
تأثر بالشاعر الكبير أحمد سهوم الذي يعتبر من كبار شعراء الملحون المعاصرين، ولازمه واستفاد منه الكثير في ضبط النصوص، وفي الذهاب بعيدا بهذا الفن إلى إمكانيات الإبداع والإتيان بالجديد في ميدان التطوير الشعري والتحاور مع النصوص، ليدرك أن شعراء الملحون كانوا ولا يزالون يكرعون من أهل الثقافة العالمة والثقافة الشعبية. ويستدل بوعيون بأشعار سهوم التي لا تعد ولا تحصى يذكر أن سهوم قال في ظروف نشأة الملحون كلاما شعريا توثقيا ما يلي: هاد الملحون زادْ فسجلماسة
واللي نشؤوه كلهم ناس دراوش
نشأ بين الجريد علا وعسى
يكبر بين الجريد يبدا ينتعش
ودرك ما راد فالترابي وتواسا
حين تربى ترابي لفشاوش
رباتو لالة البهجة بكياسة
أوصبح بين الفنون يفخر ويفايش
وفضل هاد لبلاد ما كيتناسا
على ناس الفن من مضى واللي عايش
حياك الله يا مدينة مراكش
إلا أن الجيلالي ا مثيرد هو الذي أخذ بلب بوعيون، لأنه في اعتقاده، الشاعر الذي ينطق بلسان الحال ويترجم عن الأسرار، وشبيهه في هذه النقطة بالذات الشاعر المتنبي الذي كان ينطق بما في ضمائر الناس، ولقد أوصل الجيلالي مثيرد شعر الملحون إلى مرتبة الحكمة. فهو شاعر مراكش بلا منازع، الشاعر الحكيم، والمبدع الذي ابتكر موضوعات وأنشأ بحرا جديدا (أي بحرا شعريا) وهو السوسي. فقد أضافه لبحري الملحون (لمبيت، مكسور الجناح) و أتى بموضوعات جديدة (الحراز – الشمعة – الزطمة - لفصادة - الكفارة-الضيف-الضمانة-).وغيرها من حكم الجيلالي مثيرد نقتطف منها ما يلي:
1- عمل الخير فهلو وفغير هلو ولا تحافي مريض بجهلو وكل واحد يلقى فعلو
2- ما ضاع خير ولا خابت ناسو طيب لزهار من غراسو ومن حسن بحسان لراسو
3- طابع الذهب الصافي ما حتاج عيار ديب لخلا ما رام على بديع لجدار كار لاصل ما ينفع في هواه تحزار
4- طابع الذهب الصافي ماحتاج عيار لا زهو في خلطة لردال- الغالب له ماطلب - ضرع ناس الجودة ماغرز من حليبو- صاحب غرضو بين لصحاب مالو صحبة- من لايحسن بحسان مامعه معرفة- ماحسن بحسان حرامي-
حين يحدثك بوعيون عن الملحون تشعر وكأن هذا الشعر الأصيل تسمعه لأول مرة، وتحس وكأن هذه المدونة الشعرية تغطي غابة الشعر كله، بوعيون نافورة الملحون تتدفق بلا انقطاع لكن هذا الدفق الشعري يحتاج إلى ان يتحول إلى مكتوب لاسيما أنه يحفظ هذا الشعر تحقيقا وتصحيحا ثم أن هناك مجموعة من المعلومات والحكايات التي تلقفها مشافهة لا توجد في كتاب بل هي في ذاكرته هذا ما يحتم عليه أن يمر من مرحلة الحفظ والضبط إلى مرحلة التدوين والتوثيق.
تعليقات
إرسال تعليق